الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
نحن نعلم أن حب الطعام غريزة، ولكن يجب ألا يصل حب الطعام إلى مرتبة النهم والشره. وأيضًا بقاء النوع أو المتعة الجنسية أوجدها الحق من أجل بقاء النوع. لكن لا يصح أن تتحول إلى درجة الشرود والوقوع في أعراض الناس وانتهاك حرماتهم، وحب الاستطلاع غريزة، والذين اكتشفوا الكشوف العلمية جاءت أعمالهم من حب استطلاعهم على أسرار الوجود. لكن لا يصح ولا ينبغي أن يصل حب الاستطلاع إلى التجسس الاستذلالي.إن للإِنسان غرائز يعليها الشرع؛ أمَّا الحب فهو مسألة عاطفية. فالمشرع، يقول لك: أحبب من شئت وأبغض من شئت، ولكن لا تظلم من أبغضته ولا تظلم الناس لحساب من أحببت.ولنا في رسول الله أسوة حسنة حين قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين».فقال عمر: كيف؟وكررها رسول الله فعلم عمر رضي الله عنه بفطرته أن ذلك أمر تكليفي.وعرف أن الحب المراد هو الحب العقلي. فيقول المؤمن لنفسه: من أنا لولا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟. وكل مؤمن يحب رسول الله حبًّا عقليًّا، وقد يتسامى إلى أن يصير حبًّا عاطفيًّا. والإِنسان منا- كما قلنا سابقًا- يحب الدواء بعقله لا بعاطفته لأنه مُرّ، ولكنه يغضب إن اختفى الدواء من الأسواق ويفرح بمن يأتي له به.إذن التكليف يتطلب الحب العقلي. ومن أخبار سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما مرّ أمامه قاتل أخيه زيد بن الخطاب فقال له عمر: ازو نفسك عني فأنا لا أحبك، فرد الرجل بكل جرأة إيمانية: أو عدم حبك لي يمنعني حقًّا من حقوقي؟. قال عمر: لا، قال الرجل: إنما يبكي على الحب النساء.والحق يقول هنا: {يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا} فمثلًا، حين يُقْتَلُ إنسان فلولي الدم أن يقتص، لكن الحق يحنن قلب ولي الدم على القاتل فيقول: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فاتباع بالمعروف...} [البقرة: 178].وحين يسمى الحق القاتل أخًا فهو يهدئ من صراع العواطف ويخفف من رغبة الانتقام. ويقول سبحانه أيضًا: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} [الشورى: 43].ونجده سبحانه يؤكد أن مثل هذا الأمر من {عزم الأمور} لأنه أمر يتطلب الصبر والمغفرة. ومادام المؤمن قد استطاع أن يصبر وأن يغفر لغريم له، أفلا يصبر إذا نزلت مصيبة عليه بدون غريم كمرض مفاجئ أو افتقاد حبيب؟. من إذن غريمك في المرض؟ وممن تغضب، وعلى من تهيج وإلى أين انفعالك؟ ولذلك يقول لك الحق سبحانه: {واصبر على مَا أَصَابَكَ} أي مما لا غريم لك فيه، ويوضح لك سبحانه: {إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور}. ونلحظ أن الحق هنا لم يؤكد باللام لكنه أكد الأخرى باللام؛ لأن لك غريمًا يهيجك ساعة أن تراه، وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق لسيدنا موسى: {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا} يعني إذا وجدت لهم ذريعة ووسيلة وسببًا إلى شيء ويوجد ما هو أحسن فأمرهم أن يأخذوا بالأحسن، لماذا؟؛ لأن الإِنسان إذا روَّض نفسه وذللها وعودها على الأحسن يكون قد فهم عن الله. ونفرض أن واحدًا أساء إليك ويمكنك أن تسيء إليه، فعليك أن تراعي في ردك للإِساءة أن تكون بقدرها مصداقًا لقوله الحق سبحانه: {فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ...} [النحل: 126].ولكن منَ منا يتصف بالدقة في الموازين النفسية حتى يستطيع أن يعرف المثلية بالهوى؟ فإن كان هناك من صفعك وتريد أن ترد الصفعة، فمن أين لك أن تقدر حجم الألم الذي في صفعتك له؟. لا يمكن لك أن تحدد هذا القدر من الألم؛ لأن هذه مسألة تتناسب مع القوة.إذن لماذا تدخل نفسك في متاهات، ولماذا لا تعفو وينتهي الأمر؟وحين يدلك الحق على أن العفو أحسن، إنما يريد بذلك أن ينهي شراسة النفوس وضغن الصدور. فحين يقتل إنسانٌ إنسانا آخرَ؛ سيكون هناك قصاص ودم، ولكن إذا عفا وليّ الدم تكون حياة المعفو عنه هبة من وليّ الدم فيستحي القاتل- بعد ذلك- أن يجعل أية حركة من حركات هذه الحياة ضد وليّ الدم أو من ينسب إلى وليّ الدم، وحينذاك تنتهي أي ضغينة أو رغبة في الثأر، ولذلك نجد البلاد التي تحدث فيها الثأرات وتستشري فيها عادة الأخذ بالثأر- مثل صعيد مصر- نجد القاتل إذا ما أخذ كفنه على يده ودخل على وليّ الدم وقال له: أنا جئت إليك.. يعفو عنه وليّ الدم وتفهم العائلة كلها أن حياة المطلوب للثأر صارت هبة من وليّ الدم، وتصفى الثأرات وتنتهي. ولذلك جاء الأمر من الحق بالأخذ بالأحسن: {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا}. ومثال آخر على الأخذ بالأحسن، قد نجد مدينًا غير قادر أن يوفي الدين، هنا نجد الحق يقول: {فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ...} [البقرة: 280].اقترض الرجل لأنه محتاج؛ لأن القرض لا يكون إلا عن حاجة، وهو عكس السؤال الذي يكون عن حاجة أو عن غير حاجة، ولهذا نجد ثواب القرض أكثر من ثواب الصدقة؛ لأن المقترض لا يقترض إلا عن حاجة، ولأن المتصدق حين يتصدق بشيء من ماله يكون قد أخرج هذا المال من نفسه ولم يعد يتعلق به. لكن القرض تتعلق به النفس، فكلما صبر المقرِض مع تعلق نفسه بماله أخذ أجرًا، وهكذا يكون القرض أحسن من الصدقة.إذن فهناك حَسَن وهناك أحسن، الحَسَن هو أن تأخذ حقك المشروع، والأحسن أن تتنازل عنه، ومن يتنازلون هم الفاهمون عن الله فهمًا واسعًا، ولنا المثل والأسوة في سيدنا الحسن البصري رضي الله عنه الذي أحسن لمن أساء إليه فقال كلمته: ألا نحسن إلى من جعل الله في جانبنا. ودائمًا أضرب هذا المثل- ولله المثل الأعلى- هب أن إنسانًا عنده أولاد وأساء واحد منهم للآخر. نجد قلب الأب يكون مع من أُسي إليه، وكذلك الأمر فينا نحن خلق الله. إن أساء واحد من خلق الله إلى واحد آخر من خلق الله؛ نجد رب الخلق مع من أُسيء إليه، وعلى من أسيء إليه أن يقول: هذا الإِنسان الذي أساء إلي قد جعل ربنا في جانبي ولذلك فهو يستحق أن أحسن إليه. ولهذا يقول الحق سبحانه: {الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18].وفي آية ثانية يقول الحق: {واتبعوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ...} [الزمر: 55].ويذيل الحق الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها بقوله: {سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين}.ودار الفاسقين هي النار، وكأن الحق هنا يقول: سأريكم النار، ونعلم أن كل البشر سيمرون عليها ويرونها، ولكن المؤمنين سيعبرونها ويردون عليها ويدخلون الجنة. ولقائل أن يقول: ولماذا تأتي سيرة النار هنا؟ ونقول: جاءت سيرة النار ليرهب ويخيف النفس ويحملها على أن تبتعد عن كل ما أمر يقرب إلى النار. والقول هنا أيضًا لبني إسرائيل الذين نصرهم الحق على قوم فرعون وأخذوا منهم الكنوز والمقام الكريم. وكأن الحق يقول لهم: إن كنتم تحبون أن يكون مآلكم مثل مآل قوم فرعون فافعلوا مثلهم، وإن كنتم لا تريدون هذا المآل فالتزموا منهج الحق.إذن فقوله الحق: {سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين} معناه حملهم على ما في الألواح من عظة، وعلى أن يأخذوه بقوة، وعلى أن يتبعة أحسن ما أنزل على الله. أو {دَارَ الفاسقين} هي المدائن التي دمرّت وخربت بتمرد وكفر وعصيان أهلها وفسقهم لتعتبروا فلا تفسقوا مثل فسقهم فينكل الله بكم مثل نكاله بهم، وأنتم تمرون عليها في الغدو والرواح. اهـ.
.قال صاحب المنار في الآيات السابقة: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}.هَذِهِ الْآيَاتُ نَزَلَتْ فِي بَيَانِ بَدْءِ وَحْيِّ الشَّرِيعَةِ لِمُوسَى عليه السلام، وَقَدْ بَدَأَ الْوَحْيُ الْمُطْلَقُ إِلَيْهِ فِي جَانِبِ الطَّوْرِ الْأَيْمَنِ مِنْ سَيْنَاءَ مُنْصَرَفَهُ مِنْ مَدْيَنَ إِلَى مِصْرَ، وَإِنَّمَا الْمَذْكُورُ هُنَا بَدْءُ وَحْيِّ كِتَابِ التَّوْرَاةِ بَعْدَ أَنْ أَنْجَى اللهُ قَوْمَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ وَجَعَلَهُمْ أُمَّةً حُرَّةً مُسْتَقِلَّةً قَادِرَةً عَلَى الْقِيَامِ بِمَا يُشَرِّعُهُ اللهُ لَهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ وَأَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ، وَالْأُمَّةُ الْمُسْتَعْبَدَةُ لِلْأَجْنَبِيِّ لَا تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّ جَمِيعَ أَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ مِنْ شَرِيعَتِنَا الْمُطَهَّرَةِ، وَأَكْثَرَ أَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ لَمْ تُشْرَعْ إِلَّا بَعْدَ الْهِجْرَةِ؟ وَأَنَّ الصَّلَاةَ الَّتِي هِيَ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ لَمَّا شُرِعَتْ فِي مَكَّةَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَآلُهُ وَسَلَّمَ يُصَلِّي هُوَ، وَمَنْ آمَنَ بِهِ فِي الْبُيُوتِ سِرًّا اتِّقَاءَ أَذَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَمْنَعُونَهُمْ مِنَ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَقَدْ صَلَّى فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَرَّةً فَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ بِسَلَا جَزُورٍ- أَيْ: كَرِشِ بَعِيرٍ بِفَرَثِهِ- فَوَضَعُوهُ عَلَيْهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَلَمْ يَسْتَطِعْ رَفْعَ رَأْسِهِ حَتَّى جَاءَتِ ابْنَتُهُ السَّيِّدَةُ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلَامُ فَأَلْقَتْهُ عَنْ ظَهْرِهِ؟ وَهَمَّ أَبُو جَهْلٍ مَرَّةً أَنْ يَجْلِسَ عَلَيْهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَكَفَّهُ اللهُ عَنْهُ؟قَالَ تَعَالَى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} هَذَا السِّيَاقُ مَعْطُوفٌ عَلَى السِّيَاقِ الَّذِي قَبْلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ} الْآيَاتِ، قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ {وَعَدْنَا} مِنَ الْوَعْدِ وَالْبَاقُونَ {وَاعَدْنَا} مِنَ الْمُوَاعَدَةِ، فَقِيلَ: إِنَّهَا هُنَا بِمَعْنَى الْوَعْدِ، وَقِيلَ: إِنَّ فِيهَا صِيغَةَ الْمُفَاعَلَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى ضَرَبَ لِمُوسَى عليه السلام مَوْعِدًا لِمُكَالَمَتِهِ، وَإِعْطَائِهِ الْأَلْوَاحَ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى أُصُولِ الشَّرِيعَةِ فَقَبِلَ ذَلِكَ ثُمَّ صَعِدَ جَبَلَ سَيْنَاءَ فِي أَوَّلِ الْمَوْعِدِ، وَهَبَطَ فِي آخِرِهِ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الِاتِّفَاقِ عَلَى الشَّيْءِ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ كَالتَّلَاقِي فِي مَكَانٍ مُعَيَّنٍ أَوْ زَمَانٍ مُعَيَّنٍ، وَبَيْنَ الْوَعْدِ بِهِ مِنْ وَاحِدٍ لِآخَرَ لَا يُطْلَبُ مِنْهُ شَيْءٌ لِأَجْلِ الْوَفَاءِ، كَقَوْلِكَ لِآخَرَ: سَأَدْعُو اللهَ لَكَ فِي الْبَيْتِ الْحَرَامِ مَثَلًا- فَهَذَا وَعْدٌ مَحْضٌ، وَذَاكَ يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ بِاعْتِبَارَيْنِ كَعِبَارَةِ الْآيَةِ، وَالْمِيقَاتُ أَخَصُّ مِنَ الْوَقْتِ، فَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي قُرِّرَ فِيهِ عَمَلٌ مِنَ الْأَعْمَالِ كَمَوَاقِيتِ الْحَجِّ. وَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} (5: 51) وَهُوَ إِجْمَالٌ لِمَا فُصِّلَ هُنَا مِنْ قَبْلُ؛ لِأَنَّ الْأَعْرَافَ مَكِّيَّةٌ وَالْبَقَرَةَ مَدَنِيَّةٌ فَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْهَا فِي النُّزُولِ، وَالْمُرَادُ بِاللَّيْلَةِ مَا يَشْمَلُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ فِي عُرْفِ الْعَرَبِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ.رَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ أَنَّ مُوسَى قَالَ لِقَوْمِهِ: إِنَّ رَبِّي وَاعَدَنِي ثَلَاثِينَ لَيْلَةً أَنْ أَلْقَاهُ وَأَخْلِفَ هَارُونَ فِيكُمْ، فَلَمَّا وَصَلَ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ زَادَهُ اللهُ عَشْرًا فَكَانَتْ فِتْنَتُهُمْ فِي الْعَشْرِ الَّتِي زَادَهُ اللهُ- وَذَكَرَ قِصَّةَ عِجْلَ السَّامِرِيِّ- وَرَوَى الثَّانِي عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} يَعْنِي ذَا الْقِعْدَةِ وَعَشْرًا مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، فَمَكَثَ عَلَى الطَّوْرِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ التَّوْرَاةَ فِي الْأَلْوَاحِ، فَقَرَّبَهُ الرَّبُّ نَجِيًّا وَكَلَّمَهُ، وَسَمِعَ صَرِيفَ الْقَلَمِ، وَبَلَغَنَا أَنَّهُ لَمْ يُحدثْ فِي الْأَرْبَعِينَ لَيْلَةً حَتَّى هَبَطَ مِنَ الطَّوْرِ، وَفِي مَعْنَى هَذَا رِوَايَاتٌ أُخْرَى صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ هَذَا الزَّمَنَ ضُرِبَ لِمُنَاجَاةِ مُوسَى رَبَّهُ فِي الْجَبَلِ مُنْقَطِعًا فِيهِ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُوَ الْحَقُّ الْمُوَافِقُ لِمَا وَرَدَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ قِصَّةِ السَّامِرِيِّ، وَعِبَادَةِ الْعِجْلِ فِي غَيْبَةِ مُوسَى وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ لِهَارُونَ: {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} (20: 91) وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رَفَعَهُ- «لَمَّا أَتَى مُوسَى رَبَّهُ، وَأَرَادَ أَنْ يُكَلِّمَهُ بَعْدَ الثَّلَاثِينَ يَوْمًا، وَقَدْ صَامَ لَيْلَهُنَّ وَنَهَارَهُنَّ فَكَرِهَ أَنْ يُكَلِّمَ رَبَّهُ وَرِيحُ فَمِهِ- رِيحُ فَمِ الصَّائِمِ- فَتَنَاوَلَ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ فَمَضَغَهُ فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ: لِمَ أَفْطَرْتَ؟ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا كَانَ قَالَ: أَيْ رَبِّ، كَرِهْتُ أَنْ أُكَلِّمَكَ إِلَّا وَفَمِي طَيِّبُ الرَّائِحَةِ، قَالَ: أَوْ مَا عَلِمْتَ يَا مُوسَى أَنَّ فَمَ الصَّائِمِ عِنْدِي أَطْيَبُ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ؟ اذْهَبْ فَصُمْ عَشَرَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ ائْتِنِي، فَفَعَلَ مُوسَى الَّذِي أَمَرَهُ رَبُّهُ» وَهَذَا الْحَدِيثُ ضَعِيفُ السَّنَدِ وَمَتْنُهُ مَعَارِضٌ بِمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ آيَاتِ قِصَّةِ السَّامِرِيِّ وَمِنَ الرِّوَايَاتِ بِمَعْنَاهَا.وَيَسْتَدِلُّ الصُّوفِيَّةُ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ عَلَى أَيَّامِ خَلْوَتِهِمُ الَّتِي يَصُومُونَ أَيَّامَهَا الْأَرْبَعِينَ لَا يُفْطِرُونَ إِلَّا عَلَى حَبَّاتِ الزَّبِيبِ، لِمَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْوِصَالِ فِي الصِّيَامِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُسْتَأْنَسَ بِالرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ لِلتَّفَرُّغِ لِذِكْرِ اللهِ وَمُنَاجَاتِهِ بِالصَّلَاةِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَلَيْلَةً، فَيُجْعَلُ مَقْصِدًا لَا وَسِيلَةً.وَهَذَا مَا وَرَدَ فِي التَّوْرَاةِ الْحَاضِرَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ (24: 12): وَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى اصْعَدْ إِلَى الْجَبَلِ، وَكُنْ هُنَاكَ فَأُعْطِيكَ لَوْحَيِ الْحِجَارَةِ وَالشَّرِيعَةِ وَالْوَصِيَّةِ الَّتِي كَتَبْتُهَا لِتَعْلِيمِهِمْ (13) فَقَامَ مُوسَى وَيَشُوعُ خَادِمُهُ وَصَعِدَ مُوسَى إِلَى جَبَلِ اللهِ (14) وَأَمَّا الشُّيُوخُ فَقَالَ لَهُمْ: اجْلِسُوا هَاهُنَا، وَهُو ذَا هَارُونُ وَحُورُ مَعَكُمْ، فَمَنْ كَانَ صَاحِبُ دَعْوَى فَلْيَتَقَدَّمْ إِلَيْهِمَا (15) فَصَعِدَ مُوسَى إِلَى الْجَبَلِ فَغَطَّى السَّحَابُ الْجَبَلَ وَحَلَّ مَجْدُ الرَّبِّ عَلَى جَبَلِ سَيْنَاءَ وَغَطَّاهُ السَّحَابُ سِتَّةَ أَيَّامٍ وَفِي الْيَوْمِ السَّابِعِ دَعَى مُوسَى مِنْ وَسَطِ السَّحَابِ (17) وَكَانَ مَنْظَرُ مَجْدِ الرَّبِّ كَنَارٍ آكِلَةٍ عَلَى رَأْسِ الْجَبَلِ أَمَامَ عُيُونِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَدَخَلَ مُوسَى فِي وَسَطِ السَّحَابِ وَصَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ، وَكَانَ مُوسَى فِي الْجَبَلِ أَرْبَعِينَ نَهَارًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً اهـ.
|